الكاتبة: إسراء رحمه، مهندسة كيميائية مهتمة بالسياسات العامة والاقتصاد السياسي
يونيو 25، 2025

غالبًا ما يُربط بين النساء والبيئة منذ بدايات المجتمعات البشرية، لا سيما في ظل المجتمعات الأمومية، حيث كانت النساء أكثر ارتباطًا بالطبيعة والأرض من خلال مهام الزراعة، الرعاية، والخصوبة. فبينما ارتبط الرجال بالصيد، ارتبطت النساء بالزراعة، مما جعلهن أقرب إلى دورة الحياة، التغذية، واستدامة الموارد. هذا الترابط لم يكن عابرًا أو رمزيًا فحسب، بل شكل الأساس لفهم العلاقة العميقة بين النساء والطبيعة، وهي العلاقة التي أعاد التفكير فيها مفهوم النسوية البيئية (Ecofeminism).
لعبت عالمة الفيزياء الهندية فاندانا شيفا دورًا محوريًا في صياغة النسوية البيئية كمنظور نقدي يربط بين اختزال الطبيعة بوصفها مادة خام يجب إخضاعها واستغلالها، وبين الطريقة التي تُعامل بها النساء داخل النظام الرأسمالي بوصفهن أدوات إنتاج أو رعاية بلا اعتراف حقيقي بقيمتهن. ترى شيفا أن العلم الحديث، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرأسمالية، قد حوّل الطبيعة إلى كيان سلبي يمكن التحكم فيه، بنفس الطريقة التي حولت بها الرأسمالية النساء – لا سيما نساء الجنوب العالمي – إلى قوة عمل مهمشة.[1]
في هذا السياق، يصبح من الواضح أن الرأسمالية والتوسع النيوليبرالي لم يأتيا فقط على حساب البيئة، بل على حساب النساء أيضًا. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى نظم حماية اجتماعية شاملة لا كأداة تعويض، بل كإطار تصحيحي يعيد الاعتبار لدور النساء، خصوصًا في القطاعات غير المرئية، كالرعاية والزراعة المنزلية.
السودان كمثال: الزراعة والنساء في قلب الاقتصاد غير المعترف به
في السودان، يشكل القطاع الزراعي نحو32٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل فيه ما يقارب 49٪ من السكان، حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، وتُقدّر نسبة النساء في هذا القطاع بـ82٪، خاصة في الزراعة التقليدية المطرية والمروية، وتحديدًا في المناطق الريفية[2]. ورغم هذه النسبة الكبيرة، لا تنعكس مساهمة النساء في الزراعة على شكل حماية اجتماعية حقيقية لهن أو تمكين اقتصادي. فغالبًا ما يُحصر عمل النساء في إطار الأسرة، دون أجر أو اعتراف قانوني، بينما يحتكر الرجال ملكية الأرض وقرارات البيع والتسويق.
في العديد من المناطق مثل مشروع الجزيرة، وهو أحد أكبر المشاريع الزراعية في إفريقيا، تُظهر التقارير الميدانية تغييبًا ممنهجًا لأصوات النساء، لا سيما النساء النازحات والعاملات بالأجر اليومي أو في الشراكات غير الرسمية. كما تنتقد ناشطات نسويات قوانين مثل قانون 2005 لمشروع الجزيرة، الذي أتاح خصخصة وبيع أجزاء من الأراضي الزراعية، ما أدى إلى مزيد من التهميش للنساء وأضعف حقهن في الوصول إلى الأرض كما في سبل العيش والضمان الاجتماعي.[3]
غياب الحماية الاجتماعية: الحلقة المفرغة للتهميش
غياب الحماية الاجتماعية في الريف لا يظهر فقط في انعدام التغطية الصحية أو التأمينية، بل يمتد إلى فقدان الحق في التعليم، الأمن الغذائي، والعيش الكريم. فبسبب تدهور البيئة وتغير المناخ، من تصحر الأراضي وندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة، تضاعف العبء على النساء في الحصول على الحطب والمياه وتأمين الغذاء، ما يتركهن عرضة للعنف القائم على النوع، خصوصًا أثناء تنقلاتهن خارج القرية.[4]
ومع أن النساء يقمن بأدوار رئيسية في الزراعة والإنتاج المنزلي – كالتجفيف، الحصاد، وتحويل المحاصيل إلى منتجات قابلة للتخزين أو التسويق – إلا أن هذه الأعمال تُعد “غير منتجة” في النظام الاقتصادي الرسمي، وبالتالي لا تمنح صاحبتها حقًا في ضمان اجتماعي أو دخل تقاعدي أو تغطية صحية.
وهكذا تُحاصر النساء بين ثنائية التهميش الاقتصادي والاجتماعي: يعملن بلا أجر، يتحملن عبء الرعاية المنزلية، ولا يُعترف بإنتاجهن، ولا يتمتعن بأي حماية في حال المرض، الحمل، الكِبر، أو النزوح.
النسوية البيئية كمدخل للعدالة الاجتماعية
في ظل السياسات النيوليبرالية التي تسعى إلى تسليع الأرض ومدخلات الإنتاج الزراعي (كالأسمدة والبذور)، غالبًا ما يُستبعد الفاعلون المحليون – وفي مقدمتهم النساء – من السياسات التنموية، بل يُنظر إليهم كمتلقين للمساعدات لا كمنتجين فاعلين. غير أن الواقع يثبت عكس ذلك. فالنساء في الريف لا يقمن فقط بالزراعة، بل أيضًا بـإدارة الاقتصاد المنزلي، تأمين الغذاء، الحفاظ على التنوع البيولوجي، وتطوير المعرفة الزراعية المحلية. ووفقًا لمفهوم النسوية البيئية، فإن الاعتراف بهذا الدور يتطلب تفكيك النموذج التنموي القائم على النمو الاقتصادي المنفصل عن العدالة الاجتماعية.
توضح نساء الريف في السودان أن السيادة الغذائية ليست فقط مسألة إنتاج، بل أيضًا مسألة استقلال، كرامة، وقدرة على مواجهة الأزمات. فحين تقوم النساء بزراعة المحاصيل المنزلية (كالويكة والكركدي والفول السوداني)، وتجفيفها أو تحويلها إلى منتجات منزلية، فهن بذلك يصنعن الأمن الغذائي ويقللن من الاعتماد على السوق (وكذلك الأسواق الخارجية)، ما يعزز صمود الأسرة والمجتمع.
ما الذي تعنيه الحماية الاجتماعية من منظور نسوي بيئي؟
الحماية الاجتماعية لا تعني فقط تقديم إعانات مالية أو دعم صحي. من منظور نسوي بيئي، هي شبكة أمان شاملة تشمل حق المرأة في الوصول إلى الأرض وامتلاكها، الاعتراف بالعمل غير المأجور كجزء من الناتج الوطني، توفير التأمين الصحي والتغطية ضد البطالة والأمومة، تمكين النساء من اتخاذ القرار في الإنفاق الزراعي، إدماج النساء في النقابات والتعاونيات الزراعية، وتوفير البنية التحتية للخدمات في الريف (الصحة، التعليم، المياه).
يجب ألا يُنظر إلى كل هذا على أنه “مساعدة”، بل حق أصيل يضمن للنساء القدرة على الاستمرار في أدوارهن كمنتجات، مربيات، وقائدات مجتمع. هذا هو المطلوب من أجل الانتقال نحو اقتصاد ريفي عادل وشامل. فإن إعادة التفكير في علاقة النساء بالأرض والزراعة تتطلب نموذجًا تنمويًا جديدًا لا يُقصي النساء، بل يُعلي من مساهماتهن ويمنحهن الأدوات للاستمرار والتطور. وهذا لا يتم دون تحليل تقاطعي يأخذ في الاعتبار الجندر، الطبقة، العرق، والموقع الجغرافي، وينطلق من احتياجات النساء الواقعية، لا من فرضيات اقتصادية بعيدة عن الأرض. كما أن أي سياسات للحماية الاجتماعية يجب أن تكون مرتبطة بالسيادة الشعبية والديمقراطية الاقتصادية، وأن تعيد توزيع الموارد لصالح المجتمعات المحلية، لا الشركات أو السوق العالمية.
الختام: حماية النساء تعني حماية المجتمع
إن التفكير في حياة النساء الريفيات في السودان وعلاقتهن بالأرض، يتجاوز مجرد مستوى التمكين الفردي. هو ركيزة لتحول اجتماعي شامل، يبدأ من العدالة البيئية والحماية الاجتماعية، ولا ينتهي إلا عند بناء مجتمعات عادلة، مرنة، ومستدامة. النساء لسن فقط منتِجات للغذاء، بل صانعات لحياة بأكملها. ومنحهن حقوقهنّ ليس ترفًا، بل ضرورة لمواجهة أزمات العالم المعاصر: من الفقر إلى تغير المناخ، ومن النزوح إلى تفكك النظم الغذائية. وفي نهاية المطاف، فإن أي تنمية لا تضع المرأة الريفية في صلبها وتمنحها حقها الكامل في الحماية والاعتراف، هي تنمية ناقصة وغير مستدامة.
[1] يمنى طريف الخولي، النسوية وفلسفة العلم، مؤسسة هنداوي، 2018.
[2] البنك الأفريقي للتنمية 2022
[3] انظر ميسون النجومي، “طوعنة النسوية”، مطبوعة اختيار غير دورية، العدد 2، 2015، (17-21)، متاح على https://shorturl.at/eCczs
[4] برنامج الأمم المتحدة للبيئة وآخرون 2013
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.