د. غفران هلال، أستاذ مشارك في القانون الدولي العام، كلية الحقوق، الجامعة الأردنية
ثواب هلال، عالمة رئيسية، شعبة المجالات العامة وعدم المساواة ، جامعة سالزبورغ

تشغل الحماية الاجتماعية حيزها من الأهمية في المجتمع الدولي، ابتداء من مفهومها الفلسفي الذي يخدم النظريات القانونية الاجتماعية وانتهاء منظومتها التطبيقية لتعزيز الحماية الفعلية لحقوق الإنسان،[1] والذي ينعكس بطبيعة الحال على احتياج المنطقة العربية لبناء نظام حماية اجتماعية وقانونية شامل وخاصة للفئات الأكثر هشاشة بصورة مُلحّةً في ظلّ التحديات التكنولوجية والسياسية في المنطقة.[2]
وفي سبيل رسم نموذج مُتكامل يُمكن تطبيقه في المنطقة العربية لضمان حماية فعّالة ومتسقة عابرة للحدود الوطنية، نجد انه من المفيد إسقاط الجوانب الإيجابية للتجربة الأوروبية وخاصة في إطار اتفاقية الحماية الدولية للبالغين لعام 2000 والاقتراح التشريعي للاتحاد الأوروبي بشأن حماية البالغين الأكثرهشاشة عبر الحدود لعام 2024، على مقترح يسعى لبناء نظام مشابه في المنطقة العربية مع ضرورة احترام الخصوصية الإقليمية والتحديات التي تواجهها المنطقة عند الحاجة.
يرتكز بناء هذا النظام بشكل أساسي على أربعة أركان، أولا: اعتماد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحماية الاجتماعية، ثانيا: توحيد الأطر التشريعية لنظام الحماية ما بين دول المنطقة العربية، ثالثا: تفعيل دور المحكمة العربية لحقوق الإنسان، رابعا: حوكمة السياسات وتنسيقها ما بين الدول العربية. وفي ضوء سردنا لهذه الأركان سنتطرق خلالها الى التجربة الأوروبية لقياس معقولية مقترح النظام وقابليته للتطبيق على المنطقة العربية وإن كان بعض هذه الأركان أكثر قابلية للتطبيق على المدى القريب من بعضها الآخر إلا أنه لا يمكن تجزئتها عن بعضها البعض لكون هذه الأركان ترتكز إحداها على الأخرى وذلك حفاظا على ديمومة واستدامة النظام.
أولا: المبادئ الأساسية لإنشاء أنظمة حماية اجتماعية في المنطقة العربية
- النهج القائم على منظومة حقوق الإنسان:[3] يجب أن يستند نظام الحماية الشاملة إلى المعايير الدولية لمنظومة حقوق الإنسان، بطبيعتها الشمولية وغير التمييزية والتآزرية، إذ أن الحماية الاجتماعية يجب أن تمتد إلى جميع المقيمين بغض النظر عن وضعهم القانوني أو قدرتهم على المساهمة المالية. يُعد هذا الأمر ضروريًا بشكل خاص للبالغين الأكثر هشاشة من الفئات المستبعدة تقليديًا من الحماية الاجتماعية مثل المهاجرين واللاجئين،[4] مع التأكيد على مسؤولية الدولة في ضمان الحماية الاجتماعية كحق أساسي، ولابد من الإشارة الى أن هذا النهج يختلف في طبيعته عن المساعدات الإنسانية التي تتبع مبدأ الفزعات وبالتالي تفتقر إلى الاستدامة والاستباقية. وكما تتصف منظومة حقوق الإنسان على كونها متآزرة وغير قابلة للتجزئة فإن الحماية الاجتماعية القائمة عليها يجب أن تمتاز بالتقاطع بكونها متعددة الأبعاد، إذ يجب أن تتعامل الأنظمة الفعالة مع التعقيدات والتداخلات التي تواجهها الفئات الهشة، يتطلب ذلك تصميم برامج تلبي الاحتياجات المتنوعة، بدءًا من توفير الرعاية الصحية ووصولًا إلى دعم الدخل.
- نماذج التمويل التضامني:[5] تُعيق التحديات المرتبطة بالقيود الاقتصادية والاعتماد على الديون الخارجية ومحدودية التمويل من توسيعَ أنظمة الحماية الاجتماعية الشاملة، إلا أنه بالإمكان التخفيف من هذه التحديات عن طريق تطبيق نماذج تمويل إعادة التوزيع المالي.[6] يُمكن للمنطقة العربية الاستفادة من نموذج الاتحاد الأوروبي -على الرغم من قصوره- في هذا المجال،[7] إذ يجب أن يعتمد تمويل الحماية الاجتماعية على آليات إعادة التوزيع بدلاً من النماذج القائمة على الديون. يمكن للضرائب التصاعدية وإعادة تخصيص النفقات العامة أن تضمن التمويل المستدام وتقلل من التفاوتات الاجتماعية-الاقتصادية.
ثانيا: فرص توحيد الأطر التشريعية لنظام الحماية ما بين دول المنطقة العربية
يتطلب تحقيق نظام حماية موحد على المستوى الإقليمي وضع إطار قانوني شامل يعزز تبادل المعلومات والاعتراف المتبادل بتدابير الحماية بين الدول العربية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إبرام اتفاقيات إقليمية تتماشى مع المعايير الدولية، مستندة إلى مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الإقليمية والتشريعات الوطنية، لضمان الحماية الفعالة للبالغين الأكثر هشاشة. إذ تعاني المنطقة العربية من تجزئة الأطر القانونية خاصة في ضوء افتقار الدول العربية للقوانين المنظمة للحماية الاجتماعية بشكل واضح أو موحد،[8] مما يؤدي إلى تباين في الحماية بين المناطق والفئات السكانية حتى داخل الدولة الواحدة، مما يتطلب معالجة هذا الوضع عن طريق مواءمة التشريعات المحلية مع معايير دولية أو إقليمية.
وعلى غرار النموذج الأوروبي، ينبغي تطوير آليات تشريعية واضحة لتحديد القوانين واجبة التطبيق في قضايا الفئات الهشة، مع مراعاة الظروف الفردية وتجنب تعارض القوانين بين الدول.[9] ويتضمن ذلك وضع لوائح خاصة تتناول المسؤولية القانونية لمقدمي الرعاية، وإجراءات تعيين الأوصياء القانونيين، وآليات المراقبة لضمان احترام حقوق الفئات المستهدفة. في هذا السياق، يُعرّف الإطار التشريعي الأوروبي الفئات الهشة من البالغين بأنهم الأشخاص الذين بلغوا سن 18 عامًا غير القادرين على إدارة شؤونهم الشخصية أو المالية بسبب عجز بدني أو عقلي، مثل المصابين بأمراض مرتبطة بالتقدم في العمر أو ذوي الإعاقات الشديدة. ويوفر النموذج الأوروبي آليات لحماية حقوقهم من خلال الاعتراف المتبادل بقرارات الحماية، وإنشاء شهادة تمثيل قانونية أوروبية، ونظام تسجيل مترابط لتوثيق جميع القرارات القانونية المتعلقة بحماية البالغين.
وبالنسبة للمنطقة العربية، يمكن لجامعة الدول العربية أن تضطلع بدور محوري في تطوير اتفاقية إقليمية تتضمن مبادئ قانونية ملزمة للدول الأعضاء،[10] وتحدد إجراءات موحدة لتعيين الأوصياء والاعتراف بتدابير الحماية عبر الحدود، وتضع آليات رقابية لضمان الامتثال لأحكام الاتفاقية، مما يسهم في تعزيز الإطار التشريعي لحماية الفئات الهشة لضمان حقوقهم على المستوى الإقليمي.
ثالثا: تفعيل دور المحكمة العربية لحقوق الإنسان
يُعد تفعيل المحكمة العربية لحقوق الإنسان خطوة أساسية لتعزيز نظام الحماية القانونية والاجتماعية في المنطقة العربية،[11] لا سيما فيما يتعلق بحماية الفئات الأكثر هشاشة. ومن خلال اعتماد نموذج مشابه للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يمكن وضع قواعد واضحة للولاية القضائية العابرة للحدود، بما يسهم في توحيد المعايير القانونية وتعزيز التعاون القضائي بين الدول.[12] إذ توفر هذه المحكمة منصة مستقلة لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، مما يضمن تطبيق المعايير القانونية الإقليمية بشكل متسق وفعال. ويؤدي تفعيلها إلى تحقيق أهداف رئيسية، من بينها ضمان المساءلة القانونية، حيث يمكن للمحكمة محاسبة الدول الأعضاء على أي إخفاقات في حماية الفئات الهشة، وإلزامها الامتثال للالتزامات الإقليمية ضمن منظومة الحماية الاجتماعية المقترحة.
تلعب المحاكم الإقليمية دورًا جوهريًا في تفسير صكوك حقوق الإنسان الإقليمية وتقديم تفسيرات موحدة مما يسهم في تطوير الإطار القانوني لحماية الحقوق وتعزيز العدالة بشكل أكثر يتصف باحترام الخصوصيات الإقليمية ولكون قراراتها قابلة للتنفيذ والاحترام بطريقة أكثر فعالية من المحاكم الدولية.[13] أي أنه يمكن للمحكمة العربية أن تسهم في تعزيز نظام الحماية الاجتماعية للبالغين الأكثر هشاشة من خلال ضمان احترام حقوقهم القانونية، والتأكد من تنفيذ تدابير الحماية بطريقة تتماشى مع المعايير الدولية، بما يوفر لهم بيئة قانونية آمنة تحمي كرامتهم واستقلالهم.
وليس خفيا على أحد التكهنات التي تتنبأ بفشل المحكمة العربية لحقوق الإنسان إذا ما تم تفعيلها، إلا إن وجود المحكمة الجنائية الدائمة أكبر دليل على عدم استحالة تطور العدالة الدولية والإقليمية حول العالم.[14] فإن الصراعات التي تزامنت مع أول مقترح لمحكمة جنائية دولية استلزم المجتمع الدولي أكثر من خمسين عاما من الجهود الحثيثة لإنشائها.
رابعا: الدور المُحتمل لجامعة الدول العربية في حوكمة السياسات وتنسيقها
يمكن لجامعة الدول العربية تنسيق السياسات وتعزيز الحوكمة الإقليمية لإنشاء إطار شامل للحماية الاجتماعية والقانونية. فمن خلال عملها كهيئة تنسيق مركزية، يمكنها مواءمة الأطر القانونية الوطنية، وتطوير أفضل الممارسات، وضمان التزام الدول الأعضاء بمعايير الحماية المشتركة. كما يمكنها إنشاء وإدارة نظام تسجيل مترابط، على غرار النظام الأوروبي،[15] لتسجيل تدابير الحماية والأحكام القضائية، مما يُبسط تبادل المعلومات ويضمن الحماية عبر الحدود للحفاظ على استمرارية الحماية القانونية والاجتماعية.
كما يمكن للجامعة دعم تطبيق شهادة التمثيل القانوني على غرار النموذج الأوروبي، بما يتيح للأفراد تعيين ممثليهم القانونيين مسبقًا، وتعزيز شفافية الإجراءات القانونية. إلى جانب ذلك، يمكن للجامعة تعزيز بناء القدرات من خلال تقديم المساعدة الفنية والتدريب والموارد اللازمة لدعم المؤسسات الوطنية المعنية بأنظمة الحماية الاجتماعية. كما يمكنها الاضطلاع بدور الرقابة والامتثال، عبر مراقبة تنفيذ الدول الأعضاء لأطر الحماية المتفق عليها، وضمان امتثالها للمعايير الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى توفير آليات لحل النزاعات القانونية العابرة للحدود.
في السياق ذاته، ينبغي تعزيز الحوكمة التشاركية ودور الشركاء وأصحاب المصلحة عن طريق الجامعة لضمان فاعلية واستدامة أنظمة الحماية، ويأتي تعزيز الحوكمة التشاركية من خلال إشراك المجتمع المدني وممثلي الفئات الهشة في تصميم وتنفيذ ورصد السياسات ذات الصلة.[16] ويُعد هذا النهج ضروريًا لضمان استجابة التدابير للاحتياجات الفعلية للفئات المستهدفة، وتعزيز الشفافية والمساءلة. كما يسهم إشراك المجتمعات المتضررة في تحسين فعالية أنظمة الحماية، من خلال تمكين المستفيدين من لعب دور نشط في تقييم السياسات وتقديم مقترحات لتحسينها، مما يعزز شرعية النظام ويضمن تحقيق أهدافه الاجتماعية والحقوقية.
[1] (بالإنجليزي) نيل جيلبرت، “من الاستحقاقات إلى الحوافز: الفلسفة المتغيرة للحماية الاجتماعية”، المجلة الدولية للضمان الاجتماعي، العدد 3/45، 1992، متاح على https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1111/j.1468-246X.1992.tb00339.x
[2] عزة الحاج سليمان، “واقع الحق في الحماية الاجتماعية بين دور الدولة وتحولات العصر”، مبادرة الإصلاح العربي، يونيو 2023، متاح على https://short-link.me/11TXg
[3] ملتقى المنطقة العربية للحماية الإجتماعية، “بيان حول بناء نُظُم حماية اجتماعية شاملة في المنطقة العربية”، فبراير 2023، متاح على https://short-link.me/11TZ7
[4] غفران هلال، “مفهوم الهشاشة في القانون الدولي لحقوق الإنسان ونطاق الحماية الدولية”، المجلة الأردنية في القانون والعلوم السياسية، العدد 3/14، 2022.
[5] ملتقى المنطقة العربية للحماية الإجتماعية، “بيان حول بناء نُظُم حماية اجتماعية شاملة في المنطقة العربية”.
[6] (بالإنجليزي) كارل شميت وآخرون ،”تمويل الحماية الاجتماعية: رسم خرائط وشرح تمويل دولة الرفاهية من منظور عالمي”، مجلة السياسة الاجتماعية العالمية، العدد 2/20، 2020، متاح على https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1111/j.1468-246X.1992.tb00339.x
[7] (بالإنجليزي) خافيير بلباو-أوبيلوس، “البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي: وسيلة لحجب المنافسة الاجتماعية؟”، مجلة أبحاث المؤشرات الاجتماعية، العدد 165، 2022، متاح على https://link.springer.com/article/10.1007/s11205-022-03012-6
[8] (بالإنجليزي) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أنظمة الحماية الاجتماعية والاستجابة لجائحة كوفيد-19 في المنطقة العربية، 2021، متاح على https://www.undp.org/arab-states/publications/social-protection-systems-and-response-covid-19-arab-region
[9] (بالإنجليزي) خيسوس الساسوا وآخرون، “عملية الاندماج في الاتحاد الأوروبي وتقارب استحقاقات الحماية الاجتماعية على الصعيد الوطني”، المجلة الدولية للرفاه الاجتماعي، العدد 4/16، 2007، متاح على https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/j.1468-2397.2007.00483.x
[10] لجنة حقوق الإنسان العربية، “التقرير السنوي الخامس عشر لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان بموجب المادة (48) من الميثاق العربي لحقوق الإنسان”، 2023، متاح على https://short-link.me/YVim
[11] عبد الحليم أوديني و زهرة براهمية، “الإختصاص القضائي للمحكمة العربية لحقوق الإنسان”، المجلة الأكاديمية للبحث القانوني، العدد 1/12، 2021، متاح على https://asjp.cerist.dz/en/article/154701
[12] (بالإنجليزي) أجني ليمانتي، “حماية الفئات الضعيفة في أوروبا: أبرز السوابق القضائية الأخيرة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان”، المجلة الدولية لحقوق الإنسان، العدد 4/28، 2023، متاح على https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/13642987.2023.2297311
[13] (بالإنجليزي) لجنة البرلمان الأوروبي الفرعية لحقوق الإنسان، دور الآليات الإقليمية لحقوق الإنسان، 2010، متاح على https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/etudes/join/2010/410206/EXPO-DROI_ET(2010)410206_EN.pdf
[14] نابي محمد أمين، “المحكمة العربية لحقوق الإنسان بين الواقع والمأمول”،المجلة الأكاديمية للبحوث القانونية والسياسية، العدد 2/6، 2022، متاح على https://asjp.cerist.dz/en/article/200512
[15] (بالإنجليزي) خافيير بلباو-أوبيلوس، “البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي”.
[16] (بالإنجليزي) بريتا بوهمان، التصميم القانوني للصمود الاجتماعي والبيئي، مطبعة جامعة كامبريدج، 2021، ص. 115-168، متاح على https://www.cambridge.org/core/books/abs/legal-design-for-socialecological-resilience/stakeholders-and-structures-for-participation/2011B19F9A60217B546C1642DEB0D10F
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.