المؤلف: أحمد القاضي، باحث وكاتب من مصر

في عام 2020 خرج الأستاذ مصطفى عناني على المعاش بدرجة كبير محررين في قطاع الأخبار التابع للهيئة الوطنية للإعلام، لكنه منذ ذلك التوقيت لم يحصل على مكافأة نهاية الخدمة الخاصة به.قضية الأستاذ مصطفى ليست مسألة خاصة، لكنها وفقًا لشكواه قضية كل من خرج للمعاش في الهيئة بعد شهر نوفمبر لعام 2019. حتى من خرج للمعاش قبل هذا التاريخ، يقف في طوابير طويلة على مدار عشرة أيام للحصول على أموالهم، في الوقت الذي حصل فيه زملائهم في الهيئة العامة للصحافة على مستحقاتهم، حيث تم استخدام أموال صندوق المعاشات الخاصة بهم في تطوير الاستديوهات والرعاية الطبية بعد تحويل سلطة تقديم المستحقات من وزير المالية لرئاسة الهيئة الوطنية للإعلام، ما أضطر الأستاذ مصطفى وشركاؤه في المظلومية في تدشين مجموعة “مستحقات معاشات ماسبيرو” لإعلان مطالبهم رغم تهديدهم وفقًا لإدعائته.
شكوى الأستاذ مصطفى تزامنت في توقيتها مع تصديق مجلس النواب المصري على قانون خاص بكبار السن بحلول شهر فبراير لعام 2024.[1] ويهدف القانون إلى تنظيم تشريعي لمنح المسنين حقوقهم، تنفيذًا للالتزام الدستوري الخاص بالمادة رقم 83 من الدستور، الذي يقضي بحقوق كبار السن في مختلف المجالات، حيث تضمن مشروع القانون توفير رعاية كاملة لحقوق المسنين صحياً واقتصادياً واجتماعياً من خلال توفير معـاش مناسـب يكفـل لهـم حيـاة مستقرة، مع توفير خدمة توصيل المعاش إلى محل إقامة المسن مقابل رسم رمزي وتيسير تعاملات المسنين مع الجهات الحكومية وغير الحكومية – على أن يكون هناك نافذة تُخصص لحصولهم على الخدمات دون مزاحمة مع غيرهم.
مشكلة المعاشات لم تتوقف عند ذلك، فأصحاب المعاشات يشكون من قلة مبلغ المعاش رغم رفع الحد الأدني للأجور إلى 6000 جنيه، في المقابل لم تزد المعاشات معها بشكل موازي، مع عدم وجود منح ومكافآت، لذا فالمعاشات هي ملاذهم لاستكمال حياتهم، ودفع الإيجارات والمشتريات التي تزيد أسعارها، مع ثبات في مبلغ المعاش المستحق.
لا شك أن مواد القانون الجديد ستواجه تحديات كبرى تحتاج التغلب عليها لتحقيق أهداف دعم كبار السن، مع تأكيد القانون في حق المسن الذي ليس له مصدر دخل له الحق في الحصول على مساعدة شهرية في حال عدم حصوله على معاش تأميني، إلا أن برامج التحويلات النقدية يصعب الوصول إليها وتعاني سوء التنفيذ، حيث تشترط البرامج تقديم طلبات المساعدات الاجتماعية بشكل شخصي دون وسيط، مما يجعل من الصعب على كبار السن الوصول جسديًا إلى البرنامج والتقدم إليه والاستفادة منه، مثال على ذلك برنامج تكافل وكرامة في عام 2018، حين حصل ٣,٥٪ من كبار السن الفقراء فقط على معاشات تقاعدية، حَسَبَ مقال نشرته الأمم المتحدة.[2]
حق الرعاية الصحية لكبار السن
يشدد القانون الجديد على أهمية تقديم الرعاية الصحية وتقديم تسهيلات لكبار السن لضمان ولوجها في منظومة التأمين الصحي، وتوفير العلاج الآمن والصحيح لكبار السن، بواسطة القضاء على أوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية على أساس العمر أو الجنس لضمان حصول كبار السن بشكل شامل ومتساوي على الرعاية الصحية، مع توفير برنامج العناية الوقائية والعلاجية وفقًا لقواعد التأمين الصحي.
لكن نصوص ذلك القانون تخالف معاناة المهندس على المعاش نبيل أحمد، ]حين شعر بألم في قلبه وانخفاض معدل ضغطه بشكل مفاجئ مرة مع وجود دوخة، ليتجه للتسجيل في منظومة التأمين الصحي، وهي عملية معقدة بالنسبة للجيل الأقدم الذي اعتاد التسجيل الورقي، وحتى مع التسجيل الورقي يجد كبار السن تعنت من بعض الموظفين، وإجبارهم عن خوض عديد الخطوات وتجهيز أوراق عدة للتسجيل، وبعد كل تلك التحركات، أكتشف أن دوره في الحجز بعد شهر و٦ أيام، حتى بعد مرحلة ذهاب المسن إلى المستشفى واحتياجه إجراء عملية أو أشعة، فصبح مطالبًا بدفع مقابل لتلك الخدمة أو طلب قرار العلاج على نفقة الدولة، والقرار يأخذ وقته، مع تحديد موعد لكل إجراء على حدا، ما يتسبب في كثير من الأحوال بوفاة المريض المسن قبل تلقي العلاج.
ونعود لبطل قصتنا الأستاذ مصطفى عناني، [الذي يعاني من حساسية في الصدر، تحتاج لصرف علاج من الأقراص والبخاخات، لكنه توقف عن العلاج في الرعاية الصحية لهيئة الإعلام منذ أكثر من خمس سنوات، بسبب نقص الأدوية في التأمين الصحي بها، رغم استيلاء الهيئة على صندوق المعاشات بزريعة تطوير المنظومة الطبية].
بمراجعة خطط الرعاية الصحية فى مصر اتضح أن احتياجات المسنين لم توضع فى الاعتبار بالدرجة الكافية، بالمقارنة بالدول الأخرى، فبينما تنفق الولايات المتحدة 150 بليون دولار سنويًا على الرعاية الصحية للمسنين، يحدث في مصر تخفيض فى ميزانية وزارة الصحة، وبالتالى يؤثر على الرعاية الصحية لكبار السن فى مصر، أن رغم وجود برامج لرعاية المسنين بالقطاعين الأهلي والخاص، إلا أنها لا تغطي المطلوب.
الصحة العقلية لكبار السن في مصر
خلص تقرير حديث صادر عن المعهد المصري لبحوث الصحة العقلية إلى أن 25% من المصريين يعانون مشكلات الصحة العقلية، وأن 0.4% منهم فقط يحصلون على العلاج، وهذا النقص أكثر وضوحًا وقتما يتعلق الأمر بكبار السن، الذين قد لا يرغبون في المشاركة في الاستشارات السريرية وتسجيلات الحالات.
وفقًا لمراجعة منهجية تمت في عام ٢٠١٧ حول انتشار الخرف في مصر، تراوح معدل انتشار الخرف من 2.01% إلى 5.07%.[3] يزداد الخرف مع تقدم العمر، مع الزيادة السريعة لمن تزيد أعمارهم عن 80 عامًا. ثم أن معدل انتشاره كان أعلى بين الفئات الأمية منه بين الفئات المتعلمة.
وكشفت التقارير في صعيد مصر أن إجمالي معدل انتشار مرض الزهايمر في مناطق الدراسة بلغ 1% بين السكان الذين تبلغ أعمارهم 50 عامًا فأكثر، ليصل إلى 2.9% في الفئة بين السبعين والثمانين سنة و9.74% عند 80 سنة فأكثر، وكان معدل انتشار خرف الزهايمر أعلى بين الإناث مقارنة بالذكور في جميع الفئات العمرية.
السيدة “وفاء” ابنة السيدة “فايزة” صاحبة التسع وسبعون عامًا إحدى مريضات الزهايمر منذ خمسة أعوام، ]تشتكي وفاء من فقدانها لطعم الحياة، فهي لا تفعل شيئًا في يومها إلا خدمة أمها المريضة،مع ارتفاع أسعار الأدوية، واضطرارها تحمل صراخ وعصبية أمها، ما اضطرها أن تجهز أوراق أمها لوضعها في جمعية لرعاية مرضى الزهايمر، لكنها تفاجأت بامتلاء قوائم الانتظار بمن يشاركوها المأساة[.
رغم ذلك تعيش السيدة وفاء مثلها مثل أهالي مرضى الزهايمر، بين عذاب مراعاة المريض، وصعوبة التخلي عنه في أيامه الأخيرة.
أحوال دور المسنين في المجتمع المصري
حرص القانون الجديد على تشجيع منظمـات المجتمـع المدنـي في مجال رعاية المسنين، بجانب إنشاء دور العناية وأندية نهارية خاصـة بكبـار السـن، وقد راعى القانون في تلك النقطة التغير الاجتماعي الذي حل في السنوات الأخيرة على ترابط الأسر في مصر، والوضع الذي كان عليه كبار السن في رؤوس عائلاتهم لكنه تبدل بشكل ملحوظ حالياً، ما أظهرتها بيانات مسح سوق العمل المصري، حيث توضح البيانات ارتفاع نسبة كبار السن الذين يعيشون بمفردهم من 9.9% عام 1998 إلى 21.6% عام 2018، وفي الوقت نفسه، انخفضت نسبة الأفراد الأكبر سنًا الذين يعيشون مع أطفال أو أحفاد من 69.8% إلى 46.7%.[4]
في منطقة إمبابة في محافظة الجيزة، في دار” أم هانئ” لرعاية المسنين، تقص السيدة عطيات محمد صاحبة السبعون عامًا حكايتها ]بعد وفاة زوجها اتجهت إلى دار لرعاية المسنين باحثةً عن الصحبة والونس، رغم رفض ابنتها الوحيدة لذلك واستقبالها في بيتها، لكن السيدة عطيات تصر على العودة للدار لأنها تجد فيها الألفة وتبادل الحكايات مع أحبائها وفق تعبيرها[.
على عكس زميلها في نفس الدار، إمام كامل الرجل السبعيني الذي ]يشتكي هجران أولاده وعدم سؤالهم عليه بانتظام، ما اضطره للتحرك صوب دار المسنين، رغم معارضة أبنائه وتأكيدهم الدائم أنه سيسألون عليه بمجرد خروجه، لكنه يجد نفس الهجران، ما يجعله بغير رغبة في العودة للدار مرة أخرى[.
وحددت بيانات نشرة الخدمات الاجتماعية ارتفاع عدد مؤسسات رعاية المسنين إلى 166 مؤسسة على مستوى الجمهورية وعدد المنتفعين بها 4719 مسنًا،[5] لكن تلك المؤسسات تجد خللًا في التوزيع الجغرافي حيث تقع نصفها تقريبًا في محافظتي القاهرة والجيزة، ويتوزع النصف الثاني على بقية المحافظات، التي تحصل الإسكندرية على 13% منهم،[6] مع تباين مستوى الخدمة المقدمة بين دور المسنين الحكومية قليلة السعر، عن نظيرتها الخاصة، من عدم كفاية التجهيزات فى الدور للحد الذي يضر بالمسنين مثل عدم تليفون إلا فى مكتب المدير، والضغط الشديد على دورات المياه.
حلول الأزمات تبدأ من مشاركة أصحابها
مع غياب تمكين المجتمع لكبار السن في مصر،[7] سيحد ذلك من استعداد الدولة للأحداث المستقبلية الخاصة بكبار السن، لهذا تأتي أهمية المساهمة المستمرة للمسنين في المجتمع وإزالة التمييز ضدهم، ليس المساهمة في شكلها الاقتصادي فقط، بل في شكلها الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضًا.
يقول في هذا الشأن لموقع المنصة المستشار “فرج أحمد فرج” المستشار في مركز بحوث ودراسات كبار السن، والذي حارب كثيرًا على حقوق كبار السن وقدم مسودة سابقة لمجلس الشورى تحوي 72 مادة لقانون حماية كبار السن “أن صدور القانون الجديد خطوة مهمة لحماية حقوق كبار السن رغم تعطيل النص الدستوري طويلاً، لكنه في الوقت نفسه يجب إنشاء مجلس قومى لكبار السن على غرار المجلس القومي للمرأة، ويكون له دور رقابي على تطبيق القانون، ولا يكون دوره احتفالي.”
وأشار المستشار “فرج” على ضرورة الوقوف على الاستفادة من المنح التي تقدمها جهات خارجية لكبار السن في مصر ومراقبة ذلك.
ومن أهم أشكال التمكين تلك هي أهمية خلق فرص توليد الدخل لكبار السن من خلال سياسات العمل التي تدعم التوظيف لجميع الفئات العمرية، وتعزيز مبادرات العمل الحر لكبار السن، واتخاذ التدابير اللازمة لتمكين كبار السن من التكيف مع التغيرات التكنولوجية ولا سيما بالنسبة لأولئك الذين في تعداد القوى العاملة.
وتتمثل أهداف تلك الخطوة في ضمان تكافؤ الفرص للحصول على خدمات التعليم والتدريب وإعادة التدريب والتوظيف، والاستفادة من إمكانات الأشخاص من جميع الأعمار الذين يزدادون خبرة مع تقدم العمر، والحد من الفقر بين كبار السن والاعتراف بالفروق بين الجنسين حيث تعاني النساء المسنات من الفقر أكثر من الرجال.
ذلك إضافة لتعزيز مفاهيم “الشيخوخة” لدى المجتمع مع إيلاء الاعتبار لخيارات السكن بأسعار معقولة لكبار السن، وتحسين السكن والبيئة المحيطة بهم، ووضع برامج التمكين لجميع العمال للحصول على الضمان الاجتماعي، بما في ذلك المعاشات التقاعدية والفوائد الصحية وتوفير دخل كاف لكبار السن ولا سيما الفئات المحرومة اجتماعيًا واقتصاديًا، والعدالة في حصول كبار السن على الغذاء والرعاية الطبية و وضعهم بشكلٍ استثنائي في أثناء حالات الطوارئ الإنسانية، وتعزيز مساهمة كبار السن في إعادة بناء المجتمعات في أعقاب حالات الطوارئ.
ونشير إلى ضرورة نشر مفهوم الرعاية الصحية الشاملة للمسنين، المبنية على فريق متكامل من الطبيب والتمريض والأخصائيين: الاجتماعى والنفسى والعلاج الطبيعى، من خلال التعاون بين وزارة الصحة والهلال الأحمر من أجل تدعيم خدمة التمريض المنزلي لكبار السن.
ومن المهم كذلك فتح المجال أمام دراسات مجتمع كبار السن في مصر، مع وجود قيود مفروضة على البيانات الموجودة في هذا المجال، حيث لا توجد بيانات أسرية متحقق منها لتوثيق ومراقبة الظروف الجسدية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية لكبار السن من المصريين، وتنوعهم ومساراتهم، بينما تفشل بيانات المسح الحالية في مصر في رصد تأثير تغير المناخ والفوارق بين الجنسين وعدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية على صحة كبار السن على الوجه المناسب.
تلك الخطوات ضرورية حتى لا يجد الأستاذ مصطفى عناني نفسه بعد سنوات من الخدمة، وفي سنوات عمره الأخيرة عاجزًا عن الحصول على مستحقاته، أو إستقبال رعاية صحية مناسبة لسنه، فالأستاذ مصطفى ينتظر كما ينتظر غيره الملايين من كبار السن في مصر أن يكون قانون كبار السن الجديد طوق نجاة لهم.
[1] نورا فخرى، “مجلس النواب يقر 21 حقا للمسنين تلتزم وحدات الجهاز الإداري بحمايتها”، اليوم السابع، 11 فبراير 2024، متاح على https://short-link.me/11Q0k
[2] (بالإنجليزي) كلير كيرشنر، “معالجة فقر المسنين في مصر”، ذا بورغن بروجكت، 1 يناير 2021، متاح على https://borgenproject.org/elderly-poverty-in-egypt/
[3] (بالإنجليزي) محمد الشاهيدي و آخرون، “انتشار الخرف في مصر: مراجعة منهجية”، مجلة الأمراض العصبية والنفسية وعلاجها، العدد 13، 2017، متاح على https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC5345900/
[4] (بالإنجليزي) هيلين سلين (محررة)، الشيخوخة عبر الثقافات: التقدم في السن في العالم غير الغربي، سبرنجر، 2021، متاح على https://link.springer.com/book/10.1007/978-3-030-76501-9
[5] آية الجارحي، “8.6 % نسبة كبار السن في مصر عام 2023″، صدى البلد، 1 أكتوبر 2023، متاح على https://www.elbalad.news/5941711
[6] نادية حليم (محررة)، تقييم دور المسنين في مصر: دراسة مسحية، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، مايو 2020، متاح على https://jns.journals.ekb.eg/article_205315_b7799c40d55344c7a4f9fdd76ebc5dad.pdf
[7] محمود نصار و آخرون، “كبار السن الذين يفتقرون إلى الرعاية الصحية المتخصصة في مصر: متطلبات التقييم والإصلاح”، ملتقى السياسات العامة، 2019، متاح على https://fount.aucegypt.edu/studenttxt/81/
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.